الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)} لما أمر سبحانه بغضّ الأبصار، وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحلّ للعباد من النكاح الذي يكون به قضاء الشهوة، وسكون دواعي الزنا، ويسهل بعده غضّ البصر عن المحرّمات، وحفظ الفرج عما لا يحل، فقال: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} الأيم: التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً، والجمع أيامى، والأصل أيايم، والأيم بتشديد الياء، ويشمل الرجل والمرأة. قال أبو عمرو، والكسائي: اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي: المرأة التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً. قال أبو عبيد: يقال رجل أيم، وامرأة أيم، وأكثر ما يكون في النساء، وهو كالمستعار في الرجال، ومنه قول أمية ابن أبي الصلت: للّه درّ بني علي *** أيم منهم وناكح ومنه أيضاً قول الآخر: لقد إمت حتى لا مني كلّ صاحب *** رجاء سليمى أن تأيم كما إمت والخطاب في الآية للأولياء، وقيل: للأزواج، والأوّل أرجح، وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها، وقد خالف في ذلك أبو حنيفة. واختلف أهل العلم في النكاح هل مباح، أو مستحب، أو واجب؟ فذهب إلى الأوّل الشافعي، وغيره، وإلى الثاني مالك، وأبو حنيفة، وإلى الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك، فقالوا: إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه، وإلاّ فلا. والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية، وبالجملة، فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح: «ومن رغب عن سنتي فليس مني»، ولكن مع القدرة عليه، وعلى مؤنه كما سيأتي قريباً، والمراد بالأيامى هنا الأحرار، والحرائر، وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} قرأ الجمهور {عبادكم}، وقرأ الحسن «عبيدكم». قال الفراء: ويجوز «وإماءكم» بالنصب بردّه على الصالحين، والصلاح هو الإيمان. وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار لأن الغالب في الأحرار الصلاح بخلاف المماليك، وفيه دليل على أن المملوك لا يزوّج نفسه، وإنما يزوّجه مالكه. وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح. وقال مالك: لا يجوز. ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار، فقال: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} أي: لا تمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما، فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك. قال الزجاج: حثّ الله على النكاح، وأعلم أنه سبب لنفي الفقر، ولا يلزم أن يكون هذا حاصلاً لكل فقير إذا تزوّج، فإن ذلك مقيد بالمشيئة. وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوّجوا. وقيل: المعنى إنه يغنيه بغنى النفس، وقيل: المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا. والوجه الأوّل أولى، ويدلّ عليه قوله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} [التوبة: 28]. فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك، وجملة: {والله واسع عَلِيمٌ} مؤكدة لما قبلها، ومقرّرة لها، والمراد: أنه سبحانه ذو سعة لا ينقص من سعة ملكه غنّى من يغنيه من عباده عليم بمصالح خلقه، يغني من يشاء، ويفقر من يشاء. ثم ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشاداً لهم إلى ما هو الأولى، فقال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} استعفّ: طلب أن يكون عفيفاً أي: ليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد نكاحاً أي: سبب نكاح، وهو المال. وقيل: النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس، وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية، وهي: {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} أي: يرزقهم رزقاً يستغنون به، ويتمكنون بسببه من النكاح، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد الجملة الأولى. وهي: أن يكونوا فقراء يغنهم الله بالمشيئة كما ذكرنا، فإنه لو كان وعداً حتماً لا محالة في حصوله؛ لكان الغنى والزواج متلازمين، وحينئذٍ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة، فإنه سيغنى عند تزوّجه لا محالة، فيكون في تزوّجه مع فقره تحصيل للغنى، إلاّ أن يقال: إن هذا الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادئ النكاح، ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحاً إذا كان غير واجد لأسبابه التي يتحصل بها، وأعظمها المال. ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء، أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال: {والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم} الموصول في محل رفع على الابتداء، ويجوز أن يكون في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده أي: وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة، يقال: كاتب يكاتب كتاباً ومكاتبة، كما يقال: قاتل يقاتل قتالاً ومقاتلة. وقيل: الكتاب ها هنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء، وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه، وعلى أنفسهم بذلك كتاباً، فيكون المعنى: الذين يطلبون كتاب المكاتبة. ومعنى المكاتبة في الشرع: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجماً، فإذا أدّاه فهو حرّ، وظاهر قوله: {فكاتبوهم} أن العبد إذا طلب الكتابة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده، وهو {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}، والخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه، وإن لم يكن له مال، وقيل: هو المال فقط، كما ذهب إليه مجاهد والحسن وعطاء والضحاك وطاوس ومقاتل. وذهب إلى الأوّل ابن عمر وابن زيد، واختاره مالك والشافعي والفراء والزجاج. قال الفراء: يقول إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال. وقال الزجاج: لما قال {فيهم} كان الأظهر الاكتساب، والوفاء، وأداء الأمانة، وقال النخعي: إن الخير الدين والأمانة. وروي مثل هذا عن الحسن. وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة. قال الطحاوي: وقول من قال: إنه المال لا يصح عندنا، لأن العبد مال لمولاه، فكيف يكون له مال؟ قال: والمعنى عندنا: إن علمتم فيهم الدين والصدق. قال أبو عمر بن عبد البرّ: من لم يقل: إن الخير هنا المال، أنكر أن يقال: إن علمتم فيهم مالاً، وإنما يقال: علمت فيه الخير، والصلاح، والأمانة، ولا يقال: علمت فيه المال. هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم في الخير المذكور في هذه الآية. وإذا تقرّر لك هذا، فاعلم: أنه قد ذهب ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب. عكرمة، وعطاء، ومسروق، وعمرو بن دينار، والضحاك، وأهل الظاهر، فقالوا: يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك، وعلم فيه خيراً. وقال الجمهور من أهل العلم: لا يجب ذلك، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده، أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك، ولم يجبر عليه، فكذا الكتابة لأنها معاوضة. ولا يخفاك أن هذه حجة واهية، وشبهة داحضة، والحق ما قاله الأوّلون، وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباس واختاره ابن جرير. ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين، فقال {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُم} ففي هذه الآية: الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئاً من المال، أو بأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه، وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار، وقيل: الثلث، وقيل: الربع، وقيل: العشر، ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم، وسياق الكلام معهم فإنهم المأمورون بالكتابة. وقال الحسن، والنخعي، وبريدة: إن الخطاب بقوله: {وآتوهم} لجميع الناس. وقال زيد بن أسلم: إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم كما في قوله سبحانه: {وَفِي الرقاب} [التوبة: 60]، وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة. ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا، فقال {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء} والمراد بالفتيات هنا الإماء، وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر. والبغاء: الزنا، مصدر بغت المرأة تبغي بغاء إذا زنت، وهذا مختصّ بزنا النساء، فلا يقال للرجل إذا زنا: إنه بغيّ، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} لأن الإكراه لا يتصور إلاّ عند إرادتهم للتحصن، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها: مكرهة على الزنا، والمراد بالتحصن هنا: التعفف، والتزوج. وقيل: إن هذا القيد راجع إلى الأيامى. قال الزجاج والحسن بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: وأنكحوا الأيامى، والصالحين من عبادكم، وإمائكم إن أردن تحصناً. وقيل: هذا الشرط ملغى. وقيل: إن هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه، فإنهم كانوا يكرهونهنّ، وهنّ يردن التعفف، وليس لتخصص النهي بصورة إرادتهنّ التعفف. وقيل: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب: أن الإكراه لا يكون إلاّ عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن، وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه، فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال، ولا للحرام كما فيمن لا رغبة لها في النكاح، والصغيرة، فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل: من أنه لا يتصور الإكراه إلاّ عند إرادة التحصن، إلاّ أن يقال: إن المراد بالتحصن هنا مجرّد التعفف، وأنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن، وهو بعيد، فقد قال الحبر ابن عباس: إن المراد بالتحصن التعفف، والتزوّج، وتابعه على ذلك غيره. ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: {لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا}، وهو: ما تكسبه الأمة بفرجها، وهذا التعليل أيضاً خارج مخرج الغالب، والمعنى: أن هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا لفائدة له أصلاً لا يصدر مثله عن العقلاء، فلا يدلّ هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها، إذا لم يكن مبتغياً بإكراهها عرض الحياة الدنيا. وقيل: إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك، لا أنه مدار للنهي عن الإكراه لهنّ، وهذا يلاقي المعنى الأوّل، ولا يخالفه. {وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} هذا مقرّر لما قبله، ومؤكد له، والمعنى: أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات، كما تدلّ عليه قراءة ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير: «فإن الله غفور رحيم لهنّ». قيل: وفي هذا التفسير بعد، لأن المكرهة على الزنا غير آثمة. وأجيب: بأنها، وإن كانت مكرهة، فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية، أو يكون الإكراه قاصراً عن حدّ الإلجاء المزيل للاختيار. وقيل: إن المعنى: فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم لهم، إما مطلقاً، أو بشرط التوبة. ولما فرغ سبحانه من بيان تلك الأحكام، شرع في وصف القرآن بصفات ثلاث: الأولى: أنه {آيَاتٍ مُّبَيِّنَات} أي: واضحات في أنفسهن، أو موضحات، فتدخل الآيات المذكورة في هذه الصورة دخولاً أوّلياً. والصفة الثانية: كونه مَثَلاً من الذين خلوا من قبل هؤلاء أي: مثلاً كائناً من جهة أمثال الذين مضوا من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، فإن العجب من قصة عائشة رضي الله عنها، هو كالعجب من قصة يوسف ومريم وما اتهما به، ثم تبين بطلانه، وبراءتهما سلام الله عليهما. والصفة الثالثة: كونه مَّوْعِظَةٌ ينتفع بها المتقون خاصة، فيقتدون بما فيه من الأوامر، وينزجرون عما فيه من النواهي. وأما غير المتقين، فإن الله قد ختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة عن سماع المواعظ، والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشتمل عليه الآيات البينات. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} الآية، قال: أمر الله سبحانه بالنكاح، ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوّجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى، فقال {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي بكر الصدّيق قال: أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، قال تعالى {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}. وأخرج عبد الرزاق في المصنف، وعبد بن حميد، عن قتادة قال: ذكر لنا: أن عمر بن الخطاب قال: ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة، وقد وعد الله فيها ما وعد، فقال {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، عنه نحوه من طريق أخرى. وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود نحوه. وأخرج البزار، والدارقطني في العلل، والحاكم، وابن مردويه، والديلمي من طريق عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنكحوا النساء، فإنهنّ يأتينكم بالمال» وأخرجه ابن أبي شيبة، وأبو داود في مراسيله، عن عروة مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر عائشة، وهو مرسل. وأخرج عبد الرزاق، وأحمد، والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في السنن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حقّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» وقد ورد في الترغيب في مطلق النكاح أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس في قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} قال: ليتزوّج من لا يجد فإن الله سيغنيه، وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة، عن عبد الله بن صبيح، عن أبيه قال: كنت مملوكاً لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتابة، فأبى، فنزلت: {والذين يَبْتَغُونَ الكتاب} الآية. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة، فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب، فأقبل عليّ بالدرّة، وقال: كاتبه، وتلا: {فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}، فكاتبته. قال ابن كثير: إن إسناده صحيح. وأخرج أبو داود في المراسيل، والبيهقي في سننه، عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قال: «إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلاً على الناس» وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس: {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قال: المال. وأخرج ابن مردويه عن عليّ مثله. وأخرج البيهقي، عن ابن عباس في الآية قال: أمانة ووفاء. وأخرج عنه أيضاً قال: إن علمت مكاتبك يقضيك. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عنه في الآية قال: إن علمتم لهم حيلة، ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ} يعني: ضعوا عنهم من مكاتبتهم. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، عن نافع قال: كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة، ويقول: يطعمني من أوساخ الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله} الآية: أمر المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقال عليّ بن أبي طالب: أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه. وهذا تعليم من الله ليس بفريضة، ولكن فيه أجر. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والروياني في مسنده، والضياء المقدسي في المختارة، عن بريدة في الآية قال: حثّ الناس عليه أن يعطوه. وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، ومسلم، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي من طريق أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال: كان عبد الله بن أبيّ يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً، وكانت كارهة، فأنزل الله: «ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههنّ فإن الله من بعد إكراههنّ لهنّ غفور رحيم» هكذا كان يقرؤها، وذكر مسلم في صحيحه عن جابر: أن جارية لعبد الله بن أبيّ: يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يريدهما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم} الآية. وأخرج البزار، وابن مردويه، عن أنس نحو حديث جابر الأوّل. وأخرج ابن مردويه، عن عليّ بن أبي طالب في الآية قال: كان أهل الجاهلية يبغين إماءهم، فنهوا عن ذلك في الإسلام. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهنّ، فنزلت الآية. وقد ورد النهي منه صلى الله عليه وسلم عن مهر البغيّ، وكسب الحجام، وحلوان الكاهن.
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} لما بيّن سبحانه من الأحكام ما بين أردف ذلك بكونه سبحانه في غاية الكمال، فقال {الله نُورُ السموات والأرض}، وهذه الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها، والاسم الشريف مبتدأ، و{نور السموات والأرض} خبره، إما على حذف مضاف، أي: ذو نور السموات، والأرض، أو لكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلاله، وظهور عدله، وبسطه أحكامه، كما يقال: فلان نور البلد، وقمر الزمن، وشمس العصر، ومنه قول النابغة: فإنك شمس والملوك كواكب *** إذا ظهرت لم يبق منهن كوكب وقول الآخر: هلا قصدت من البلاد لمفضل *** قمر القبائل خالد بن يزيد ومن ذلك قول الشاعر: إذا سار عبد الله من مرو ليلة *** فقد سار منها نورها وجمالها وقول الآخر: نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى *** نوراً ومن فلق الصباح عمودا ومعنى النور في اللغة: الضياء، وهو الذي يبين الأشياء، ويري الأبصار حقيقة ما تراه، فيجوز إطلاق النور على الله سبحانه على طريقة المدح، ولكونه أوجد الأشياء المنوّرة، وأوجد أنوارها، ونوّرها، ويدلّ على هذا المعنى قراءة زيد بن عليّ، وأبي جعفر، وعبد العزيز المكي {الله نُورُ السموات والأرض} على صيغة الفعل الماضي، وفاعله ضمير يرجع إلى الله، والسماوات مفعوله؛ فمعنى {الله نُورُ السموات والأرض} إنه سبحانه صيرهما منيرتين باستقامة أحوال أهلهما، وكمال تدبيره عزّ وجلّ لمن فيهما، كما يقال: الملك نوّر البلد، هكذا قال الحسن، ومجاهد، والأزهري، والضحاك، والقرظي، وابن عرفة، وابن جرير، وغيرهم، ومثله قول الشاعر: وأنت لنا نور وغيث وعصمة *** ونبت لمن يرجو نداك وريف وقال هشام الجواليقي، وطائفة من المجسمة: إنه سبحانه نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام، وقوله: {مَثَلُ نُورِهِ} مبتدأ، وخبره: {كَمِشْكَاةٍ} أي: صفة نوره الفائض عنه، الظاهر على الأشياء كمشكاة، والمشكاة الكوّة في الحائط غير النافذة، كذا حكاه الواحدي عن جميع المفسرين، وحكاه القرطبي عن جمهورهم. ووجه تخصيص المشكاة: أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح، أو غيره، وأصل المشكاة: الوعاء يجعل فيه الشيء. وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد: هي القنديل. والأوّل أولى، ومنه قول الشاعر: كأن عينيه مشكاتان في جحر *** ثم قال {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وهو السراج {المصباح فِى زُجَاجَةٍ} قال الزجاج: النور في الزجاج، وضوء النار أبين منه في كل شيء، وضوؤه يزيد في الزجاج، ووجه ذلك: أن الزجاج جسم شفاف يظهر فيه النور أكمل ظهور. ثم وصف الزجاجة، فقال: {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ} أي: منسوب إلى الدرّ لكون فيه من الصفاء والحسن ما يشابه الدرّ. وقال الضحاك: الكوكب الدرّي الزهرة. قرأ أبو عمرو " دِريّ " بكسر الدال. قال أبو عمرو: لم أسمع أعرابياً يقول: إلاّ كأنه كوكب درّيّ بكسر الدال، أخذوه من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت. وقرأ حمزة بضم الدال مهموزاً، وأنكره الفراء والزجاج والمبرد. وقال أبو عبيد: إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز، لأنه ليس في كلام العرب. والدّراري: هي المشهورة من الكواكب كالمشتري، والزهري، والمريخ، وما يضاهيها من الثوابت. ثم وصف المصباح بقوله: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة} و«من» هذه هي الابتدائية: أي: ابتداء إيقاد المصباح منها، وقيل: هو على تقدير مضاف، أي: يوقد من زيت شجرة مباركة، والمباركة: الكثيرة المنافع. وقيل المنماة، والزيتون من أعظم الثمار نماء، ومنه قول أبي طالب، يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس: ليت شعري مسافر بن أبي عمرو *** وليت يقولها المحزون بورك الميت الغريب كما *** بورك نبع الرمان والزيتون قيل: ومن بركتها أن أغصانها تورق من أسفلها إلى أعلاها، وهي إدام، ودهان، ودباغ، ووقود، وليس فيها شيء إلاّ وفيه منفعة، ثم وصفها بأنها {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}. وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف، فقال عكرمة، وقتادة، وغيرهم: إن الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا شرقت، ولا تصيبها إذا غربت. والغربية هي التي تصيبها إذا غربت، ولا تصيبها إذا شرقت. وهذه الزيتونة هي في صحراء بحيث لا يسترها عن الشمس شيء لا في حال شروقها، ولا في حال غروبها، وما كانت من الزيتون هكذا، فثمرها أجود. وقيل: إن المعنى: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة الشرق، ولا من جهة الغرب، حكى هذا ابن جرير عن ابن عباس. قال ابن عطية: وهذا لا يصح عن ابن عباس، لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها، وذلك مشاهد في الوجود. ورجح القول الأوّل الفراء، والزجاج. وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية. قال الثعلبي: قد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا، لأن قوله: {زَيْتُونَةٍ} بدل من قوله: {شَجَرَةٍ}. قال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن الشام لا شرقيّ، ولا غربيّ، والشام هي الأرض المباركة. وقد قرئ " توقد " بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح، وبها قرأ الكوفيون. وقرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص: {يُوقَدُ} بالتحتية مضمومة، وتخفيف القاف، وضم الدال. وقرأ الحسن، والسلمي، وأبو عمرو بن العلاء، وأبو جعفر " توقد " بالفوقية مفتوحة، وفتح الواو، وتشديد القاف، وفتح الدال على أنه فعل ماض من توقد يتوقد، والضمير في هاتين القراءتين راجع إلى المصباح. قال النحاس: وهاتان القراءتان متقاربتان لأنهما جميعاً للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له. وقرأ نصر بن عاصم كقراءة أبي عمرو ومن معه إلاّ أنه ضم الدال على أنه فعل مضارع، وأصله تتوقد. ثم وصف الزيتونة بوصف آخر، فقال: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِئ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} قرأ الجمهور {تمسسه} بالفوقية، لأن النار مؤنثة. قال أبو عبيد: إنه لا يعرف إلاّ هذه القراءة. وحكى أبو حاتم: أن السدّي روى عن أبي مالك، عن ابن عباس: أنه قرأ «يمسسه» بالتحتية لكون تأنيث النار غير حقيقي. والمعنى: أن هذا الزيت في صفائه وإنارته يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار أصلاً، وارتفاع {نُورٍ} على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو نور، و{على نُورٍ} متعلق بمحذوف، هو صفة لنور مؤكدة له، والمعنى: هو نور كائن على نور. قال مجاهد: والمراد النار على الزيت. وقال الكلبي: المصباح نور، والزجاجة نور. وقال السديّ: نور الإيمان، ونور القرآن {يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء} من عباده أي: هداية خاصة موصلة إلى المطلوب، وليس المراد بالهداية هنا مجرّد الدلالة {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} أي: يبين الأشياء بأشباهها، ونظائرها تقريباً لها إلى الأفهام وتسهيلاً لإدراكها، لأن إبراز المعقول في هيئة المحسوس، وتصويره بصورته يزيده وضوحاً وبياناً {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} لا يغيب عنه شيء من الأشياء معقولاً كان أو محسوساً، ظاهراً، أو باطناً. واختلف في قوله {فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} بما هو متعلق؛ فقيل: متعلق بما قبله أي: كمشكاة في بعض بيوت الله، وهي المساجد، كأنه قيل: مثل نوره كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، وقيل: متعلق بمصباح. وقال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول: هو حال للمصباح، والزجاجة، والكوكب، كأنه قيل: وهي في بيوت، وقيل: متعلق بتوقد أي: توقد في بيوت، وقد قيل: متعلق بما بعده، وهو {يسبح} أي: يسبح له رجال في بيوت، وعلى هذا يكون قوله {فِيهَا} تكريراً كقولك، زيد في الدار جالس فيها. وقيل: إنه منفصل عما قبله، كأنه قال الله: في بيوت أذن الله أن ترفع. قال الحكيم الترمذي: وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه. وقد قيل: على تقدير تعلقه بمشكاة، أو بمصباح، أو بتوقد ما الوجه في توحيد المصباح، والمشكاة، وجمع البيوت؟ ولا تكون المشكاة الواحدة، ولا المصباح الواحد إلاّ في بيت واحد. وأجيب: بأن هذا من الخطاب الذي يفتح أوّله بالتوحيد، ويختم بالجمع كقوله سبحانه: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] ونحوه. وقيل: معنى {في بيوت}: في كلّ واحد من البيوت، فكأنه قال: في كلّ بيت، أو في كلّ واحد من البيوت. واختلف الناس في البيوت، على أقوال: الأوّل: أنها المساجد، وهو قول مجاهد، والحسن، وغيرهما. الثاني: أن المراد بها بيوت بيت المقدس، روي ذلك عن الحسن. الثالث: أنها بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، روي عن مجاهد. الرابع: هي البيوت كلها، قاله عكرمة. الخامس: أنها المساجد الأربعة الكعبة، ومسجد قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، قاله ابن زيد. والقول الأوّل أظهر لقوله: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال}، والباء من بيوت تضم، وتكسر كلّ ذلك ثابت في اللغة، ومعنى {أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ}: أمر وقضى، ومعنى {تُرْفَعَ} تبنى، قاله مجاهد، وعكرمة، وغيرهما، ومنه قوله سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127]. وقال الحسن البصري، وغيره: معنى ترفع تعظم، ويرفع شأنها، وتطهر من الأنجاس، والأقذار، ورجحه الزجاج وقيل: المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين، ومعنى {يُذْكَرَ فِيهَا اسمه}: كلّ ذكر لله عزّ وجلّ، وقيل: هو التوحيد، وقيل: المراد تلاوة القرآن، والأوّل أولى. {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} قرأ ابن عامر، وأبو بكر «يسبح» بفتح الباء الموحدة مبنياً للمفعول، وقرأ الباقون بكسرها مبنياً للفاعل إلاّ ابن وثاب، وأبا حيوة، فإنهما قرآ بالتاء الفوقية، وكسر الموحدة، فعلى القراءة الأولى يكون القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلاثة، ويكون رجال مرفوع على أحد وجهين: إما بفعل مقدّر، وكأنه جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: من يسبحه؟ فقيل يسبحه رجال. الثاني: أن رجال مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وعلى القراءة الثانية يكون رجال فاعل يسبح، وعلى القراءة الثالثة يكون الفاعل أيضاً رجال، وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال. واختلف في هذا التسبيح ما هو؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة، قالوا: الغدوّ صلاة الصبح، والآصال: صلاة الظهر والعصر والعشاءين، لأن اسم الآصال يشملها، ومعنى بالغدوّ والآصال: بالغداة والعشي، وقيل: صلاة الصبح والعصر، وقيل: المراد صلاة الضحى، وقيل: المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي، وهو: تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته، وصفاته، وأفعاله، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة بعده، وهذا أرجح مما قبله، لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل يدل على خلاف ما ذهب إليه الأوّلون، وهو ما ذكرناه. {لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} هذه الجملة صفة لرجال، أي: لا تشغلهم التجارة والبيع عن الذكر؛ وخصّ التجارة بالذكر؛ لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الذكر. وقال الفراء: التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على بدنه، وخصّ قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع بعدها، وبمثل قول الفراء. قال الواقدي، فقال: التجار هم: الجلاب المسافرون، والباعة: هم المقيمون، ومعنى {عَن ذِكْرِ الله}: هو ما تقدّم في قوله: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه}، وقيل: المراد الآذان، وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى أي: يوحدونه، ويمجدونه. وقيل: المراد عن الصلاة، ويردّه ذكر الصلاة بعد الذكر هنا. والمراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، وحذفت التاء؛ لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث كلمات جمعها الشاعر في قوله: ثلاثة تحذف تاآتها *** مضافة عند جمع النحاة وهي إذا شئت أبو عذرها *** وليت شعري وإقام الصلاة وأنشد الفراء في الاستشهاد للحذف المذكور في هذه الآية قول الشاعر: إن الخليط أجدوا البين وانجردوا *** وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا أي: عدة الأمر، وفي هذا البيت دليل على أن الحذف مع الإضافة لا يختص بتلك الثلاثة المواضع. قال الزجاج: وإنما حذفت الهاء لأنه يقال: أقمت الصلاة إقامة، وكان الأصل إقواماً، ولكن قلبت الواو ألفاً، فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، فبقي أقمت الصلاة إقاماً، فأدخلت الهاء عوضاً من المحذوف، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة، وهذا إجماع من النحويين. انتهى. وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة: أن يحمل إقامة الصلاة على تأديتها في أوقاتها فراراً من التكرار، ولا ملجئ إلى ذلك، بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدّمنا. والمراد بالزكاة المذكورة هي: المفروضة، وقيل: المراد بالزكاة طاعة الله، والإخلاص، إذ ليس لكلّ مؤمن مال. {يخافون يَوْماً} أي: يوم القيامة، وانتصابه على أنه مفعول للفعل لا ظرف له، ثم وصف هذا اليوم بقوله {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} أي: تضطرب، وتتحوّل، قيل: المراد بتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها، ولا تخرج، والمراد بتقلب الأبصار هو: أن تصير عمياء بعد أن كانت مبصرة. وقيل: المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة، والخوف من الهلاك، وأما تقلب الأبصار فهو: نظرها من أيّ ناحية يؤخذون، وإلى أيّ ناحية يصيرون. وقيل: المراد تحوّل قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين، ومثله قوله: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22]. فما كان يراه في الدنيا غياً يراه في الآخرة رشداً. وقيل: المراد: التقلب على جمر جهنم، وقيل غير ذلك. {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} متعلق بمحذوف، أي: يفعلون ما يفعلون من التسبيح، والذكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا أي: أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعدهم من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله، وإلى سبعمائة ضعف، وقيل: المراد بما في هذه الآية ما يتفضل سبحانه به عليهم زيادة على ما يستحقونه، والأوّل أولى لقوله: {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} فإن المراد به التفضل عليهم بما فوق الجزاء الموعود به {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، أو أن عطاءه سبحانه لا نهاية له، والجملة مقرّرة لما سبقها من الوعد بالزيادة. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {الله نُورُ السموات والأرض} قال: يدبر الأمر فيهما نجومهما، وشمسهما، وقمرهما. وأخرج الفريابي عنه في قوله {الله نُورُ السموات والأرض} مثل نوره الذي أعطاه المؤمن {كَمِشْكَاةٍ}، وقال في تفسير {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} إنها التي في سفح جبل لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِئ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ} فذلك مثل قلب المؤمن نور على نور. وأخرج عبد بن حميد، وابن الأنباري في المصاحف، عن الشعبيّ قال: في قراءة أبيّ بن كعب: «مثل نور المؤمن كمشكاة». وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال: يقول مثل نور من آمن بالله كمشكاة، وهي الكوّه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه: {مَثَلُ نُورِهِ} قال: هي خطأ من الكاتب هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، قال: مثل نور المؤمن كمشكاة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً {الله نُورُ السموات والأرض} قال: هادي أهل السماوات والأرض {مَثَلُ نُورِهِ}: مثل هداه في قلب المؤمن {كَمِشْكَاةٍ} يقول: موضع الفتيلة كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى، ونوراً على نور، وفي إسناده عليّ بن أبي طلحة، وفيه مقال. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبيّ بن كعب {الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ} قال: هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله، فقال {نُورٍ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ} فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن، فقال: مثل نور من آمن به، فكان أبيّ بن كعب يقرؤها «مثل نور من آمن به» فهو المؤمن، جعل الإيمان والقرآن في صدره {كَمِشْكَاةٍ} قال: فصدر المؤمن المشكاة {فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح}: النور، وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره {فِى زُجَاجَةٍ} و{الزجاجة} قلبه {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ} يقول كوكب مضيء {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة}، والشجرة المباركة: أصل المبارك الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} قال: فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت، فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس: أن اليهود قالوا لمحمد: كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره، فقال {الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} المشكاة كوّة البيت فيها مصباح، وهو: السراج يكون في الزجاجة، وهو: مثل ضربه الله لطاعته، فسمى طاعته نوراً، ثم سماها أنواعاً شتى {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} قال: وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت، ولا إذا غربت، وذلك أجود الزيت {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِئ} بغير نار {نُّورٌ على نُورٍ} يعني بذلك: إيمان العبد وعلمه {يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء} وهو مثل المؤمن. وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر في قوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} قال: المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي في قلبه. {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة} الشجرة: إبراهيم {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} لا يهودية ولا نصرانية، ثم قرأ {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [آل عمران: 67]. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن شمر بن عطية قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدّثني عن قول الله {الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ} قال: مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة قال: المشكاة: الكوّة ضربها الله مثلاً لقمة فيها مصباح، والمصباح قلبه {المصباح فِي زُجَاجَةٍ}، والزجاجة صدره {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ} شبه صدر محمد صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدرّيّ، ثم رجع المصباح إلى قلبه، فقال: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة... يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِئ} قال: يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس، ولو لم يتكلم أنه نبيّ، كما يكاد الزيت أن يضيء، ولو لم تمسسه نار. وأقول: إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدّم عن أبيّ بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما تقتضيه لغة العرب، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجوّز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية، ولكن هؤلاء الصحابة، ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة، ولهذا قال ابن عباس: هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة كما قدّمنا عنه، ولا وجه لهذا الاستبعاد. فإنا قد قدّمنا في أوّل البحث ما يرفع الإشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه، وأبلغ أسلوب، وعلى ما تقتضيه لغة العرب، ويفيده كلام الفصحاء، فلا وجه للعدول عن الظاهر، لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من لغة. وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدّمنا، فإن كان هو سبب عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية، فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به في مثل هذا. وقد نبهناك فيما سبق: أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيراً، فلا تقوم به الحجة، ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي، نعم إن صحت قراءة أبيّ بن كعب، كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر، وتكون كالزيادة المبينة للمراد، وإن لم تصح، فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة، وغيرهم ممن قبلهم، وممن بعدهم هو المتعين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} قال: هي المساجد تكرم، وينهى عن اللغو فيها، ويذكر فيها اسم الله، يتلى فيها كتابه {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} صلاة الغداة وصلاة العصر، وهما أوّل ما فرض الله من الصلاة فأحبّ أن يذكرهما، ويذكر بهما عباده. وقد ورد في تعظيم المساجد، وتنزيهها عن القذر، وتنظيفها، وتطييبها أحاديث ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: إن صلاة الضحى لفي القرآن، وما يغوص عليها إلى غوّاص في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال}. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} قال: «هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله» وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} قال: «هم الذين يبتغون من فضل الله» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية، قال: كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون، فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم، وقاموا إلى المسجد، فصلوا. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في الشعب عنه في الآية، قال: ضرب الله هذا المثل قوله: {كَمِشْكَاةٍ} لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس، وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم، ولا بيعهم عن ذكر الله. وأخرج، عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً عَن ذِكْرِ الله قال: عن شهود الصلاة. وأخرج عبد الرزّاق، وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر: أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم، ثم دخلوا المسجد، فقال ابن عمر فيهم: نزلت {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود: أنه رأى ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان، فتركوا أمتعتهم، فقال: هؤلاء الذين قال الله فيهم: {لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}. وأخرج هناد بن السري في الزهد، وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب، ومحمد ابن نصر في الصلاة، عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيدٍ واحدٍ يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فيقوم منادٍ، فينادي: أين الذين كانوا يحمدون الله في السرّاء والضرّاء؟ فيقومون، وهم قليل، فيدخلون الجنة بغير حساب؛ ثم يعود فينادي: أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون، وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب؛ ثم يعود فينادي: ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يقوم سائر الناس، فيحاسبون» وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب، عن عقبة بن عامر مرفوعاً نحوه.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)} لما ذكر سبحانه حال المؤمنين، وما يئول إليه أمرهم ذكر مثلاً للكافرين، فقال: {والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} المراد بالأعمال هنا: هي الأعمال التي من أعمال الخير كالصدقة، والصلة، وفكّ العاني، وعمارة البيت، وسقاية الحاجّ، والسراب: ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حرّ النهار على صورة الماء في ظنّ من يراه، وسمي سراباً لأنه يسرب أي: يجري كالماء؛ يقال: سرب الفحل أي: مضى، وسار في الأرض، ويسمى الآل أيضاً. وقيل: الآل هو الذي يكون ضحى كالماء، إلاّ أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين السماء والأرض، قال امرؤ القيس: ألم أنض المطيّ بكلّ خرق *** طويل الطول لماع السراب وقال آخر: فلما كففنا الحرب كانت عهودهم *** كلمع سرابٍ بالفلا متألق والقيعة: جمع قاع: وهو الموضع المنخفض الذي يستقرّ فيه الماء، مثل جيرة، وجار، قاله الهروي. وقال أبو عبيد: قيعة، وقاع واحد. قال الجوهري: القاع المستوي من الأرض، والجمع: أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها، والقيعة مثل القاع. قال: وبعضهم يقول: هو جمع {يَحْسَبُهُ الظمآن مَاء} هذه صفة ثانية لسراب، والظمآن: العطشان، وتخصيص الحسبان بالظمآن مع كون الرّيان يراه كذلك، لتحقيق التشبيه المبنيّ على الطمع {حتى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} أي: إذا جاء العطشان ذلك الذي حسبه ماء لم يجده شيئاً مما قدّره وحسبه، ولا من غيره، والمعنى: أن الكفار يعوّلون على أعمالهم التي يظنونها من الخير، ويطمعون في ثوابها، فإذا قدموا على الله سبحانه لم يجدوا منها شيئاً، لأن الكفر أحبطها، ومحا أثرها، والمراد بقوله {حتى إِذَا جَاءهُ} مع أنه ليس بشيء أنه جاء الموضع الذي كان يحسبه فيه. ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على زيادة حسرة الكفرة، وأنه لم يكن قصارى أمرهم مجرّد الخيبة كصاحب السراب، فقال: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فوفاه حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} أي: وجد الله بالمرصاد، فوفاه حسابه أي: جزاء عمله، كما قال امرؤ القيس: فولى مدبراً يهوى حثيثا *** وأيقن أنه لاقى الحسابا وقيل: وجد وعد الله بالجزاء على عمله، وقيل: وجد أمر الله عند حشره، وقيل: وجد حكمه وقضاءه عند المجيء، وقيل: عند العمل، والمعنى متقارب. وقرأ مسلمة بن محارب «بقيعاه» بهاء مدورة كما يقال: رجل عزهاه. وروى عنه: أنه قرأ «بقيعات» بتاء مبسوطة. قيل: يجوز أن تكون الألف متولدة من إشباع العين على الأوّل، وجمع قيعة على الثاني. وروي عن نافع، وأبي جعفر، وشيبة أنهم قرؤوا: «الظمآن» بغير همز، والمشهور عنهم الهمز. {أَوْ كظلمات} معطوف على كسراب، ضرب الله مثلاً لأعمال الكفار كما أنه تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات، فهي أيضاً تشبه الظلمات. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار إن مثلت بما يوجد، فمثلها كمثل السراب، وإن مثلت بما يرى، فهي كهذه الظلمات التي وصف. قال أيضاً: إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل بهذه الظلمات، فأو: للإباحة حسبما تقدّم من القول في {أَوْ كَصَيّبٍ} [البقرة: 19]. قال الجرجاني: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، والثانية في ذكر كفرهم، ونسق الكفر على أعمالهم لأنه أيضاً من أعمالهم. قال القشيري: فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجرجاني لكفر الكفار {فِي بَحْرٍ لُّجّيّ} اللجة معظم الماء، والجمع لجج، وهو: الذي لا يدرك لعمقه. ثم وصف سبحانه هذا البحر بصفة أخرى، فقال {يغشاه مَوْجٌ} أي: يعلو هذا البحر موج، فيستره ويغطيه بالكلية، ثم وصف هذا الموج بقوله {مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي من فوق هذا الموج موج، ثم وصف الموج الثاني، فقال: {مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} أي: من فوق ذلك الموج الثاني سحاب، فيجتمع حينئذٍ عليهم خوف البحر وأمواجه، والسحاب المرتفعة فوقه. وقيل: إن المعنى: يغشاه موج من بعده موج، فيكون الموج يتبع بعضه بعضاً حتى كأن بعضه فوق بعض، والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف شدّة، لأنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر، ثم إذا أمطرت تلك السحاب، وهبت الريح المعتادة في الغالب عند نزول المطر تكاثفت الهموم، وترادفت الغموم، وبلغ الأمر إلى الغاية التي ليس وراءها غاية، ولهذا قال سبحانه: {ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي: هي ظلمات متكاثفة مترادفة، ففي هذه الجملة بيان لشدّة الأمر وتعاظمه، وقرأ ابن محيصن، والبزي: «سحاب ظلمات» بإضافة سحاب إلى ظلمات، ووجه الإضافة: أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة. وقرأ الباقون بالقطع، والتنوين. ومن غرائب التفاسير: أنه سبحانه أراد بالظلمات: أعمال الكافر، وبالبحر اللجيّ: قلبه، وبالموج فوق الموج: ما يغشى قلبه من الجهل، والشكّ، والحيرة. والسحاب: الرين، والختم، والطبع على قلبه، وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكانٍ بعيد. ثم بالغ سبحانه في هذه الظلمات المذكورة بقوله {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} وفاعل أخرج ضمير يعود على مقدّر دلّ عليه المقام أي: إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من ابتلى بها. قال الزجاج، وأبو عبيدة: المعنى لم يرها، ولم يكد. وقال الفرّاء: إن كاد زائدة. والمعنى: إذا أخرج يده لم يرها، كما تقول ما كدت أعرفه. وقال المبرد: يعني: لم يرها إلاّ من بعد الجهد. قال النحاس: أصح الأقوال في هذا أن المعنى: لم يقارب رؤيتها، فإذن لم يرها رؤية بعيدة، ولا قريبة، وجملة: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} مقرّرة لما قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة، والمعنى: ومن لم يجعل الله له هداية، فما له من هداية. قال الزجاج: ذلك في الدنيا، والمعنى: من لم يهده الله لم يهتد، وقيل: المعنى: من لم يجعل له نوراً يمشي به يوم القيامة، فما له من نور يهتدي به إلى الجنة. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن فِى السموات والأرض} قد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان، والخطاب لكلّ من له أهلية النظر، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد علمه من جهة الاستدلال؛ ومعنى {أَلَمْ تَرَ}: ألم تعلم، والهمزة للتقرير أي: قد علمت علماً يقينياً شبيهاً بالمشاهدة، والتسبيح: التنزيه في ذاته، وأفعاله، وصفاته عن كل ما لا يليق به، ومعنى {مَن فِى السموات والأرض}: من هو مستقرّ فيهما من العقلاء، وغيرهم، وتسبيح غير العقلاء ما يسمع من أصواتها، ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها. وقيل: إن التسبيح هنا هو الصلاة من العقلاء، والتنزيه من غيرهم. وقد قيل: إن هذه الآية تشمل الحيوانات، والجمادات، وأن آثار الصنعة الإلهية في الجمادات ناطق، ومخبر باتصافه سبحانه بصفات الجلال، والكمال، وتنزّهه عن صفات النقص، وفي ذلك تقريع للكفار، وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له يعبدونها كعبادته عزّ وجلّ. وبالجملة، فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق بكل نوع من أنواع المخلوقات على طريقة عموم المجاز. قرأ الجمهور {والطير صافات} بالرفع للطير، والنصب لصافات على أن الطير معطوفة على من، وصافات منتصب على الحال. وقرأ الأعرج «والطير» بالنصب على المفعول معه، وصافات حال أيضاً. قال الزجاج: وهي أجود من الرفع. وقرأ الحسن، وخارجة عن نافع «والطير صافات» برفعهما على الابتداء، والخبر، ومفعول صافات محذوف أي: أجنحتها، وخصّ الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السماوات والأرض لعدم استمرار استقرارها في الأرض، وكثرة لبثها في الهواء، وهو ليس من السماء ولا من الأرض، ولما فيها من الصنعة البديعة التي تقدر بها تارة على الطيران، وتارة على المشي بخلاف غيرها من الحيوانات، وذكر حالة من حالات الطير، وهي كون صدور التسبيح منها حال كونها صافات لأجنحتها؛ لأن هذه الحالة هي أغرب أحوالها، فإن استقرارها في الهواء مسبحة من دون تحريك لأجنحتها، ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كلّ شيء. ثم زاد في البيان فقال: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي: كلّ واحد مما ذكر، والضمير في علم يرجع إلى كلّ، والمعنى: أن كل واحد من هذه المسبحات لله قد علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح. وقيل: المعنى أن كلّ مصلّ ومسبح قد علم صلاة نفسه، وتسبيح نفسه. قيل: والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرّر للتأكيد، والصلاة قد تسمى تسبيحاً. وقيل: المراد بالصلاة هنا الدعاء أي: كل واحد قد علم دعاءه، وتسبيحه. وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك، أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علمها الله ذلك، وألهمها إليه، لا أن صدوره منها على طريقة الإتفاق بلا روية، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه، وعظيم شأنه، كونه جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها غير جاهلة له {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها أي: لا تخفى عليه طاعتهم، ولا تسبيحهم، ويجوز أن يكون الضمير في {علم} لله سبحانه، أي: كلّ واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له، وتسبيحه إياه، والأوّل أرجح لاتفاق القرّاء على رفع كل، ولو كان الضمير في علم لله لكان نصب كل أولى. وذكر بعض المفسرين: أنها قراءة طائفة من القراء علم على البناء للمفعول. ثم بين سبحانه: أن المبدأ منه، والمعاد إليه، فقال: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} أي: له لا لغيره {وَإِلَيْهِ المصير} لا إلى غيره، والمصير: الرجوع بعد الموت. وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في غير موضع. ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر من الآثار العلوية، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً} الإزجاء: السوق قليلاً قليلاً، ومنه قول النابغة: إني أتيتك من أهلي ومن وطني *** أزجي حشاشة نفس ما بها رمق وقوله أيضاً: أسرت عليه من الجوزاء سارية *** يزجي السماك عليه جامد البرد والمعنى: أنه سبحانه يسوق السحاب سوقاً رقيقاً إلى حيث يشاء {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} أي: بين أجزائه، فيضم بعضه إلى بعض، ويجمعه بعد تفرّقه ليقوى، ويتصل، ويكثف، والأصل في التأليف الهمز. وقرأ ورش، وقالون عن نافع " يولف " بالواو تخفيفاً، والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع، ولهذا دخلت «بين» عليه لأن أجزاءه في حكم المفردات له. قال الفراء: إن الضمير في {بينه} راجع إلى جملة السحاب، كما تقول: الشجر قد جلست بينه، لأنه جمع، وأفرد الضمير باعتبار اللفظ {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} أي: متراكماً يركب بعضه بعضاً. والركم: جمع الشيء، يقال: ركم الشيء يركمه ركماً أي: جمعه وألقى بعضه على بعض وارتكم الشيء، وتراكم إذا اجتمع. والركمة: الطين المجموع، والركام: الرمل المتراكب {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} الودق: المطر عند جمهور المفسرين، ومنه قول الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها *** ولا أرض أبقل إبقالها وقال امرؤ القيس: فدمعهما ودق وسح وديمة *** وسكب وتوكاف وتنهملان يقال: ودقت السحاب فهي: وادقة، وودق المطر يدق أي: قطر يقطر، وقيل: إن الودق البرق، ومنه قول الشاعر: أثرن عجاجة وخرجن منها *** خروج الودق من خلل السحاب والأوّل أولى. ومعنى {مِنْ خِلاَلِهِ}: من فتوقه التي هي مخارج القطر، وجملة: {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} في محل نصب على الحال، لأن الرؤية هنا هي البصرية. وقرأ ابن عباس وابن مسعود والضحاك وأبو العالية " من خلله " على الإفراد. وقد وقع الخلاف في خلال: هل هو مفرد كحجاب؟ أو جمع كجبال؟ {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} المراد بقوله: من سماء: من عال، لأن السماء قد تطلق على جهة العلوّ، ومعنى {من جبال}: من قطع عظام تشبه الجبال، ولفظ «فيها» في محل نصب على الحال، و«من» في {من برد} للتبعيض، وهو مفعول ينزل. وقيل: إن المفعول محذوف، والتقدير: ينزل من جبال فيها من برد برداً. وقيل: إن من في {من برد} زائدة، والتقدير: ينزل من السماء من جبال فيها برد. وقيل: إن في الكلام مضافاً محذوفاً أي: ينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من برد إلى الأرض. قال الأخفش: إن من في {من جبال} وفي: {من برد} زائدة في الموضعين، والجبال والبرد في موضع نصب أي: ينزل من السماء برداً يكون كالجبال. والحاصل: أن «من» في {من السماء} لابتداء الغاية بلا خلاف، و«من» في {من جبال} فيها ثلاثة أوجه: الأوّل لابتداء الغاية، فتكون هي ومجرورها بدلاً من الأولى بإعادة الخافض بدل اشتمال. الثاني: أنها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الإنزال، كأنه قال: وينزل بعض جبال. الثالث: أنها زائدة أي: ينزل من السماء جبالاً. وأما «من» في {من برد} ففيها أربعة أوجه: الثلاثة المتقدّمة. والرابع: أنها لبيان الجنس، فيكون التقدير على هذا الوجه: وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد. قال الزجاج: معنى الآية: وينزل من السماء من جبال برد فيها كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد أي: خاتم حديد في يدي، لأنك إذا قلت: هذا خاتم من حديد، وخاتم حديد كان المعنى واحداً. انتهى. وعلى هذا يكون {من برد} في موضع جرّ صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم، ويكون مفعول ينزل {من جبال}، ويلزم من كون الجبال برداً أن يكون المنزل برداً. وذكر أبو البقاء: أن التقدير: شيئاً من جبال، فحذف الموصوف، واكتفى بالصفة {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء} أي: يصيب بما ينزل من البرد من يشاء أن يصيبه من عباده {وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء} منهم، أو يصيب به مال من يشاء، ويصرفه عن مال من يشاء، وقد تقدّم الكلام عن مثل هذا في البقرة. {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار} السنا: الضوء، أي: يكاد ضوء البرق الذي في السحاب يذهب بالأبصار من شدّة بريقه، وزيادة لمعانه، وهو كقوله: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم} [البقرة: 20] قال الشماخ: وما كادت إذا رفعت سناها *** ليبصر ضوءها إلاّ البصير وقال امرؤ القيس: يضيء سناه أو مصابيح راهب *** أمال السليط في الذبال المفتل فالسنا بالقصر: ضوء البرق، وبالمدّ: الرفعة، كذا قال المبرّد، وغيره. وقرأ طلحة بن مصرف، ويحيى ابن وثاب «سناء برقه» بالمدّ على المبالغة في شدّة الضوء، والصفاء، فأطلق عليه اسم: الرفعة، والشرف. وقرأ طلحة، ويحيى أيضاً بضم الباء من برقه، وفتح الراء. قال أحمد بن يحيى ثعلب: وهي على هذه القراءة جمع برق. وقال النحاس: البرقة المقدار من البرق، والبرقة الواحدة. وقرأ الجحدري، وابن القعقاع: «يذهب» بضم الياء، وكسر الهاء من الإذهاب. وقرأ الباقون {سنا} بالقصر و{بَرْقه} بفتح الباء، وسكون الراء، و{يَذْهَبُ} بفتح الياء والهاء من الذهاب، وخطأ قراءة الجحدري وابن القعقاع الأخفش وأبو حاتم. ومعنى ذهاب البرق بالأبصار: خطفه إياها من شدّة الإضاءة، وزيادة البريق، والباء في {بالأبصار} على قراءة الجمهور للإلصاق، وعلى قراءة غيرهم زائدة. {يُقَلّبُ الله اليل والنهار} أي: يعاقب بينهما، وقيل يزيد في أحدهما، وينقص الآخر، وقيل: يقلبهما باختلاف ما يقدره فيهما من خير وشرّ، ونفع وضرّ، وقيل: بالحرّ والبرد، وقيل: المراد بذلك تغيير النهار بظلمة السحاب مرّة، وبضوء الشمس أخرى، وتغيير الليل بظلمة السحاب تارة، وبضوء القمر أخرى، والإشارة بقوله: {إِنَّ فِى ذلك لَعِبْرَةً لأوْلِى الأبصار} إلى ما تقدّم، ومعنى العبرة: الدلالة الواضحة التي يكون بها الاعتبار، والمراد بأولي الأبصار: كل من له بصر يبصر به. ثم ذكر سبحانه دليلاً ثالثاً من عجائب خلق الحيوان، وبديع صنعته، فقال {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء} قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي «والله خالق كل دابة»، وقرأ الباقون: {خلق}، والمعنيان صحيحان، والدابة: كلّ ما دب على الأرض من الحيوان، يقال: دبّ يدبّ، فهو: دابّ، والهاء للمبالغة، ومعنى {مِن مَّاء} من نطفة، وهي المنيّ، كذا قال الجمهور. وقال جماعة: إن المراد الماء المعروف، لأن آدم خلق من الماء، والطين. وقيل: في الآية تنزيل الغالب منزلة الكل على القول الأوّل، لأن في الحيوانات ما يتولد لا عن نطفة، ويخرج من هذا العموم الملائكة، فإنهم خلقوا من نور، والجانّ، فإنهم خلقوا من نار. ثم فصل سبحانه أحوال كلّ دابة، فقال: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ}، وهي الحيات والحوت والدود ونحو ذلك {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ} الإنسان والطير {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} سائر الحيوانات، ولم يتعرّض لما يمشي على أكثر من أربع لقلته، وقيل: لأن المشي على أربع فقط، وإن كانت القوائم كثيرة، وقيل: لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع، ولا وجه لهذا، فإن المراد التنبيه على بديع الصنع، وكمال القدرة، فكيف يقال: لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع؟ وقيل: ليس في القرآن ما يدلّ على عدم المشي على أكثر من أربع، لأنه لم ينف ذلك، ولا جاء بما يقتضي الحصر، وفي مصحف أبيّ: «ومنهم من يمشي على أكثر»، فعمّ بهذه الزيادة جميع ما يمشي على أكثر من أربع، كالسرطان والعناكب وكثير من خشاش الأرض {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء} مما ذكره هاهنا، ومما لم يذكره، كالجمادات مركبها وبسيطها، ناميها وغير ناميها {إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ} لا يعجزه شيء بل الكلّ من مخلوقاته داخل تحت قدرته سبحانه. {لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات} أي: القرآن، فإنه قد اشتمل على بيان كلّ شيء، وما فرّطنا في الكتاب من شيء، وقد تقدّم بيان مثل هذا في غير موضع {والله يَهْدِي مَن يَشَاء} بتوفيقه للنظر الصحيح، وإرشاده إلى التأمل الصادق {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} إلى طريق مستوي لا عوج فيه، فيتوصل بذلك إلى الخير التام، وهو نعيم الجنة. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ} قال: هو مثل ضربه الله كرجل عطش، فاشتد عطشه، فرأى سراباً، فحسبه ماء، فطلبه، فظن أنه قدر عليه حتى أتى، فلما أتاه لم يجده شيئاً، وقبض عند ذلك، يقول: الكافر كذلك السراب إذا أتاه الموت لم يجد عمله يغني عنه شيئاً، ولا ينفعه إلاّ كما نفع السراب العطشان {أَوْ كظلمات فِي بَحْرٍ لُّجّىّ} قال: يعني بالظلمات: الأعمال، وبالبحر اللجيّ: قلب الإنسان {يغشاه مَوْجٌ} يعني بذلك: الغشاوة التي على القلب، والسمع والبصر. وأخرج ابن جرير عنه {بِقِيعَةٍ}: بأرض مستوية. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم مِن طريق السديّ، عن أبيه، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الكفار يبعثون يوم القيامة ورداً عطاشاً، فيقولون: أين الماء؟ فيتمثل لهم السراب، فيحسبونه ماء، فينطلقون إليه، فيجدون الله عنده، فيوفيهم حسابه، والله سريع الحساب»، وفي إسناده السديّ عن أبيه، وفيه مقال معروف. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة في قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} قال: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله {والطير صافات} قال: بسط أجنحتهن. وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} يقول: ضوء برقه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس قال: كل شيء يمشي على أربع إلاّ الإنسان. وأقول: هذه الطيور على اختلاف أنواعها تمشي على رجلين، وهكذا غيرها، كالنعامة، فإنها تمشي على رجلين، وليست من الطير، فهذه الكلية المروية عنه رضي الله عنه لا تصحّ.
{وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)} شرع سبحانه في بيان أحوال من لم تحصل له الهداية إلى الصراط المستقيم، فقال: {وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا} وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فإنهم كما حكى الله عنهم هاهنا ينسبون إلى أنفسهم الإيمان بالله، وبالرسول والطاعة لله ولرسوله نسبة بمجرد اللسان، لا عن اعتقاد صحيح، ولهذا قال: {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} أي: من هؤلاء المنافقين القائلين هذه المقالة {مِن بَعْدِ ذلك} أي: من بعد ما صدر عنهم ما نسبوه إلى أنفسهم من دعوى الإيمان، والطاعة، ثم حكم عليهم سبحانه وتعالى بعدم الإيمان، فقال: {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} أي: ما أولئك القائلون هذه المقالة بالمؤمنين على الحقيقة، فيشمل الحكم بنفي الإيمان جميع القائلين، ويندرج تحتهم من تولى اندراجاً أوّلياً. وقيل: إن الإشارة بقوله {أولئك} راجع إلى من تولى، والأوّل أولى. والكلام مشتمل على حكمين: الحكم الأوّل: على بعضهم بالتولي، والحكم الثاني: على جميعهم بعدم الإيمان. وقيل: أراد بمن تولى: من تولى عن قبول حكمه صلى الله عليه وسلم، وقيل: أراد بذلك رؤساء المنافقين، وقيل: أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين، ولا ينافي ما تحتمله هذه الآية باعتبار لفظها وورودها على سبب خاص، كما سيأتي بيانه. ثم وصف هؤلاء المنافقين بأن فريقاً منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى الله، وإلى رسوله في خصوماتهم، فقال: {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي: ليحكم الرسول بينهم، فالضمير راجع إليه؛ لأنه المباشر للحكم، وإن كان الحكم في الحقيقة لله سبحانه، ومثل ذلك قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. و«إذا» في قوله {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} هي الفجائية أي: فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إلى الله والرسول، ثم ذكر سبحانه: أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحقّ عليهم، وأما إذا كان لهم فإنهم يذعنون لعلمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلاّ بالحق فقال {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} قال الزجاج: الإذعان الإسراع مع الطاعة، يقال: أذعن لي بحقي أي: طاوعني لما كنت ألتمس منه، وصار يسرع إليه، وبه قال مجاهد. وقال الأخفش، وابن الأعرابي: مذعنين مقرّين. وقال النقاش: مذعنين: خاضعين. ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحقّ عليهم، فقال: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ}، وهذه الهمزة للتوبيخ، والتقريع لهم، والمرض النفاق أي: أكان هذا الإعراض منهم بسبب النفاق الكائن في قلوبهم {أَمِ ارتابوا}، وشكوا في أمر نبوّته صلى الله عليه وسلم، وعدله في الحكم {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ}، والحيف: الميل في الحكم؛ يقال: حاف في قضيته أي: جار فيما حكم به، ثم أضرب عن هذه الأمور التي صدّرها بالاستفهام الإنكاري، فقال {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} أي: ليس ذلك لشيء مما ذكر، بل لظلمهم، وعنادهم؛ فإنه لو كان الإعراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم، وفي هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب، والسنة، العادلين في القضاء. هو: حكم بحكم الله، وحكم رسوله، فالداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله، وإلى رسوله أي: إلى حكمهما. قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق. قال القرطبي: في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم، لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذمّ، فقال {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} الآية. انتهى. فإن كان القاضي مقصراً لا يعلم بأحكام الكتاب، والسنة، ولا يعقل حجج الله، ومعاني كلامه، وكلام رسوله، بل كان جاهلاً جهلاً بسيطاً، وهو من لا علم له بشيء من ذلك، أو جهلاً مركباً، وهو: من لا علم عنده بما ذكرنا، ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين، واطلع على شيء من علم الرأي، فهذا في الحقيقة جاهل، وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم، فاعتقاده باطل؛ فمن كان من القضاة هكذا، فلا تجب الإجابة إليه؛ لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه، بل هو من قضاة الطاغوت، وحكام الباطل، فإنّ ما عرفه من علم الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب، والسنة، ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده. وإذا تقرّر لديك هذا، وفهمته حق فهمه علمت: أن التقليد، والإنتساب إلى عالم من العلماء دون غيره، والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأي، وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة، والفواقر الموحشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد أوضحنا هذا في مؤلفنا الذي سميناه: «القول المفيد في حكم التقليد» وفي مؤلفنا الذي سميناه: «أدب الطلب ومنتهى الأرب» فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية، فليرجع إليهما. ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق أتبع بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا دعوا إلى حكم الله، ورسوله، فقال {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} قرأ الجمهور بنصب: {قول} على أنه خبر كان واسمها {أن يقولوا}. وقرأ عليّ والحسن وابن أبي إسحاق برفع: «قول» على أنه الاسم، وأن المصدرية، وما في حيزها الخبر، وقد رجحت القراءة الأولى بما تقرّر عند النحاة من أنه إذا اجتمع معرفتان، وكانت إحداهما أعرف جعلت التي هي أعرف اسماً. وأما سيبويه فقد خير بين كلّ معرفتين، ولم يفرق هذه التفرقة، وقد قدّمنا الكلام على الدعوة إلى الله، ورسوله للحكم بين المتخاصمين، وذكرنا من تجب الإجابة إليه من القضاة، ومن لا تجب {أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: أن يقولوا هذا القول لا قولاً آخر، وهذا، وإن كان على طريقة الخبر، فليس المراد به ذلك، بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للآخر. والمعنى: أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة، والإذعان. قال مقاتل، وغيره: يقولون سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم، وأطعنا أمره، وإن كان ذلك فيما يكرهونه، ويضرّهم، ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله: {أولئك} أي: المؤمنون الذين قالوا هذا القول {هُمُ المفلحون} أي: الفائزون بخير الدنيا والآخرة. ثم أردف الثناء عليهم بثناء آخر فقال: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فأولئك هُمُ الفائزون} وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها من حسن حال المؤمنين، وترغيب من عداهم إلى الدخول في عدادهم، والمتابعة لهم في طاعة الله ورسوله، والخشية من الله عزّ وجلّ، والتقوى له. قرأ حفص {ويتقه} بإسكان القاف على نية الجزم. وقرأ الباقون بكسرها، لأن جزم هذا الفعل بحذف آخره، وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والمثنى عن أبي عمرو وحفص وأشبع كسرة الهاء الباقون. قال ابن الأنباري: وقراءة حفص هي على لغة من قال: لم أر زيداً، ولم أشتر طعاماً، يسقطون الياء للجزم، ثم يسكنون الحرف الذي قبلها، ومنه قول الشاعر: قالت سليمى اشتر لنا دقيقاً *** وقول الآخر: عجبت لمولود وليس له أب *** وذي ولد لم يلده أبوان وأصله يلد بكسر اللام، وسكون الدال للجزم، فلما سكن اللام التقى ساكنان، فلو حرك الأوّل لرجع إلى ما وقع الفرار منه، فحرك ثانيهما، وهو: الدال. ويمكن أن يقال: إنه حرك الأوّل على أصل التقاء الساكنين، وبقي السكون على الدال لبيان ما عليه أهل هذه اللغة، ولا يضرّ الرجوع إلى ما وقع الفرار منه، فهذه الحركة غير تلك الحركة، والإشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون} إلى الموصوفين بما ذكر من الطاعة، والخشية، والتقوى أي: هم الفائزون بالنعيم الدنيوي والأخروي لا من عداهم. ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا، فقال: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} أي: لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن، و{جهد أيمانهم} منتصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف الناصب له أي: أقسموا بالله يجهدون أيمانهم جهداً. ومعنى {جَهْدَ أيمانهم}: طاقة ما قدروا أن يحلفوا، مأخوذ من قولهم: جهد نفسه: إذا بلغ طاقتها، وأقصى وسعها. وقيل: هو منتصب على الحال والتقدير: مجتهدين في أيمانهم، كقولهم: افعل ذلك جهدك، وطاقتك، وقد خلط الزمخشري الوجهين، فجعلهما واحداً. وجواب القسم قوله: {لَيُخْرِجَنَّ} ولما كانت مقالتهم هذه كاذبة، وأيمانهم فاجرة ردّ الله عليهم، فقال {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ} أي: ردّ عليهم زاجراً لهم، وقل لهم: لا تقسموا أي: لا تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة، والخروج إلى الجهاد إن أمرتم به، وهاهنا تمّ الكلام. ثم ابتدأ، فقال: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ}، وارتفاع طاعة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: طاعتهم طاعة معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد، ويجوز أن تكون طاعة مبتدأ، لأنها قد خصصت بالصفة، ويكون الخبر مقدّراً أي: طاعة معروفة أولى بكم من أيمانكم، ويجوز أن ترتفع بفعل محذوف أي: لتكن منكم طاعة، أو لتوجد، وفي هذا ضعف لأن الفعل لا يحذف إلاّ إذا تقدّم ما يشعر به. وقرأ زيد بن عليّ، والترمذي «طاعة» بالنصب على المصدر لفعل محذوف أي: أطيعوا طاعة {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال، وما تضمرونه من المخالفة لما تنطق به ألسنتكم، وهذه الجملة تعليل لما قبلها من كون طاعتهم طاعة نفاق. ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم: أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله، فقال: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} طاعة ظاهرة، وباطنة بخلوص اعتقاد، وصحة نية، وهذا التكرير منه تعالى لتأكيد وجوب الطاعة عليهم، فإن قوله: {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} في حكم الأمر بالطاعة، وقيل: إنهما مختلفان، فالأوّل نهي بطريق الردّ، والتوبيخ، والثاني أمر بطريق التكليف لهم، والإيجاب عليهم {فَإِن تَوَلَّوْاْ} خطاب للمأمورين، وأصله: فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخطاب لهم لتأكيد الأمر عليهم، والمبالغة في العناية بهدايتهم إلى الطاعة، والانقياد، وجواب الشرط قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ} أي: فاعلموا أنما على النبي صلى الله عليه وسلم ما حمل مما أمر به من التبليغ، وقد فعل، وعليكم ما حملتم أي: ما أمرتم به من الطاعة، وهو وعيد لهم، كأنه قال لهم: فإن توليتم، فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل {وَإِن تُطِيعُوهُ} فيما أمركم به، ونهاكم عنه {تَهْتَدُواْ} إلى الحق، وترشدوا إلى الخير، وتفوزوا بالأجر، وجملة: {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} مقرّرة لما قبلها، واللام إما للعهد، فيراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وسلم، وإما للجنس، فيراد كل رسول، والبلاغ المبين: التبليغ الواضح، أو الموضح. قيل: يجوز أن يكون قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} ماضياً، وتكون الواو لضمير الغائبين، وتكون هذه الجملة الشرطية مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأوّل أرجح. ويؤيده الخطاب في قوله {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ}، وفي قوله {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ}، ويؤيده أيضاً قراءة البزي «فإن تولوا» بتشديد التاء، وإن كانت ضعيفة لما فيها من الجمع بين ساكنين. {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من أن طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب لهدايتهم، وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم في الأرض لما استخلف الذين من قبلهم من الأمم، وهو وعد يعم جميع الأمة. وقيل: هو خاص بالصحابة، ولا وجه لذلك، فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم، بل يمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله، فقد أطاع الله ورسوله، واللام في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض} جواب لقسم محذوف، أو جواب للوعد بتنزيله منزلة القسم، لأنه ناجز لا محالة، ومعنى {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض}: ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم، وقد أبعد من قال: إنها مختصة بالخلفاء الأربعة، أو بالمهاجرين، أو بأن المراد بالأرض أرض مكة، وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وظاهر قوله: {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} كل من استخلفه الله في أرضه، فلا يخصّ ذلك ببني إسرائيل ولا أمة من الأمم دون غيرها. قرأ الجمهور {كَمَا استخلف} بفتح الفوقية على البناء للفاعل. وقرأ عيسى بن عمر، وأبو بكر، والمفضل، عن عاصم بضمها على البناء للمفعول، ومحل الكاف النصب على المصدرية أي: استخلافاً كما استخلف، وجملة {وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ} معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب، والمراد بالتمكين هنا: التثبيت، والتقرير أي: يجعله الله ثابتاً مقرّراً، ويوسع لهم في البلاد، ويظهر دينهم على جميع الأديان، والمراد بالدين هنا: الإسلام، كما في قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3]. ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أوّلاً، وهو جعلهم ملوكاً، وذكر التمكين ثانياً، فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض، والطروّ، بل على وجه الاستقرار والثبات، بحيث يكون الملك لهم، ولعقبهم من بعدهم. وجملة {وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} معطوفة على التي قبلها. قرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر: «ليبدلنهم» بالتخفيف من أبدل، وهي قراءة الحسن، واختارها أبو حاتم. وقرأ الباقون بالتشديد من بدّل، واختارها أبو عبيد، وهما لغتان، وزيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى، فقراءة التشديد أرجح من قراءة التخفيف. قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى ثعلب أن بين التخفيف والتثقيل فرقاً، وأنه يقال: بدّلته أي: غيرته، وأبدلته: أزلته، وجعلت غيره. قال النحاس، وهذا القول صحيح. والمعنى: أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلاّ الله سبحانه، ولا يرجون غيره. وقد كان المسلمون قبل الهجرة، وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون إلاّ في السلاح، ولا يمسون ويصبحون إلاّ على ترقب لنزول المضرّة بهم من الكفار، ثم صاروا في غاية الأمن، والدعة، وأذلّ الله لهم شياطين المشركين، وفتح عليهم البلاد، ومهد لهم في الأرض، ومكنهم منها، فلله الحمد، وجملة {يَعْبُدُونَنِي} في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم، وجملة {لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني أي: يعبدونني، غير مشركين بي في العبادة شيئاً من الأشياء، وقيل: معناه لا يراؤون بعبادتي أحداً، وقيل: معناه لا يخافون غيري، وقيل: معناه لا يحبون غيري {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون} أي: من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح، أو من استمرّ على الكفر، أو من كفر بعد إيمان، فأولئك الكافرون، هم الفاسقون؛ أي: الكاملون في الفسق. وهو الخروج عن الطاعة، والطغيان في الكفر. وجملة {وَأَقِيمُواْ الصلاة} معطوفة على مقدّر يدلّ عليه ما تقدّم، كأنه قيل لهم: فآمنوا، واعملوا صالحاً، وأقيموا الصلاة، وقيل: معطوف على {وَأَطِيعُواْ الله}، وقيل التقدير: فلا تكفروا، وأقيموا الصلاة. وقد تقدّم الكلام على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكرّر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد، وخصه بالطاعة، لأن طاعته طاعة لله، ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم كما يشعر به الحذف على ما تقرّر في علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: افعلوا ما ذكر من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول راجين أن يرحمكم الله سبحانه {لا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض} قرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو حيوة «لا يحسبنّ» بالتحتية بمعنى: لا تحسبنّ الذين كفروا، وقرأ الباقون بالفوقية أي: لا تحسبنّ يا محمد، والموصول المفعول الأوّل، ومعجزين الثاني، لأن الحسبان يتعدّى إلى مفعولين، قاله الزجاج والفرّاء وأبو علي. وأما على القراءة الأولى، فيكون المفعول الأوّل محذوفاً أي: لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم. قال النحاس: وما علمت أحداً بصرياً ولا كوفياً إلاّ وهو يخطّئ قراءة حمزة، و{معجزين} معناه: فائتين. وقد تقدّم تفسيره، وتفسير ما بعده. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول} الآية قال: أناس من المنافقين أظهروا الإيمان، وهم في ذلك يصدّون عن سبيل الله وطاعته، وجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم. وأخرجوا أيضاً عن الحسن قال: إن الرجل كان يكون بينه، وبين الرجل خصومة، أو منازعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محقّ أذعن، وعلم أن النبي سيقضي له بالحقّ، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، وقال: أنطلق إلى فلان، فأنزل الله سبحانه: {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {هُمُ الظالمون} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان بينه وبين أخيه شيء، فدعاه إلى حكم من حكام المسلمين، فلم يجب، فهو ظالم لا حقّ له» قال ابن كثير بعد أن ساق هذا المتن ما لفظه: وهذا حديث غريب، وهو مرسل. وقال ابن العربي: هذا حديث باطل، فأما قوله: فهو ظالم، فكلام صحيح. وأما قوله: فلا حق له، فلا يصح. ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق. انتهى. وأقول: أما كون الحديث مرسلاً، فظاهر. وأما دعوى كونه باطلاً، فمحتاجة إلى برهان، فقد أخرجه ثلاثة من أئمة الحديث عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما ذكرنا، ويبعد كل البعد أن ينفق عليهم ما هو باطل، وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبيّ حدّثنا موسى بن إسماعيل حدّثنا مبارك حدّثنا الحسن فذكره. وليس في هؤلاء كذاب ولا وضاع. ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حقّ له» انتهى. ولا يخفاك أن قضاة العدل، وحكام الشرع الذين هم على الصفة التي قدّمنا لك قريباً هم سلاطين الدين المترجمون عن الكتاب، والسنة، المبينون للناس ما نزل إليهم. وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال: ذلك في شأن الجهاد، قال: يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} قال: أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} يقول: قد عرفت طاعتهم أي: إنكم تكذبون به. وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال: قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا؟ قال: «فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: قلت: يا رسول... فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سئل: إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا؟ قال: «قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم». وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ} الآية. قال: فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض} إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس: {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} قال: لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون}: العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {مُعْجِزِينَ فِي الأرض} قال: سابقين في الأرض.
|